لدمع أمي قوة لا أدري كيف أصفها، هي تزلزل كياني أحس أن الأرض كلها تهتز لدمعة أمي ، وأنها عندما تمر على خدها تمر على كل ذرة في كياني تلهبها وتضع الملح والفلفل عليها،
لدمع أمي قوة لا أدري كيف أصفها، هي تزلزل كياني أحس أن الأرض كلها تهتز لدمعة أمي ، وأنها عندما تمر على خدها تمر على كل ذرة في كياني تلهبها وتضع الملح والفلفل عليها، أحس لهيب سيرها كأنما تدمع لها كل جبال العالم حتى تتحول إلى أنهار.
دمعة أمي لها رنة تدخل لقلبي ، تلك الرنة تنتقل من قلبي لعقلي ، أحسها تتفجر عيوناً كما تفجر القنابل في داخلي . تنزل دمعة أمي كحبة ألماس عجنتها التربة سنين في جوف الأرض فتقطرت تقطيراً أتلف كل كيانها ،عندما تسقط ،تسقط معها مقاومتي.
الشجر يبكي لدمع أمي والسماء تمطر منه ، الثلج يذوب من حرقتها ، وتسير الأنهار حيث تصب في البحر المالح كملوحة تلك الدمعة.
هكذا كانت دموع أمي ، كانت تلون حروفي وترسم من مشاعرها لوحات كلوحات من خطوط عربية تتلون بالأحمر والبرتقالي، وتطير نحو عالم لا أدري كنهه كثر ما أحس من كره لكل من أوجع أمي وأنزل دمعها، أمد يديّ منذ كانتا صغيرتين للسماء وأدعو على من آلم أمي وأخرج دمعها من مكمنه.
في أيام صفاء أمي ، تقول النكت الجميلة وتبتهج للجارات وتحكي معهن الحكايات الموشاة بأغطية وردية وليال ترك قمرها ظلالاً على الأرض، وفاح ريح القداح والمشموم من أغطية الأسرة، عندما تضحك أمي تنثر من ثغرها ورداً أبيض كأنه صغار الزنبق، تهتز سدرة بيتنا وترسل لنا نبقاً جميلاً .
في ليلة العيد تخضب أمي أيادينا بالحناء ، للحناء فرحتان عند برودته باليد وعند لونه الجميل باليد، ونهز أيادينا المربوطة بالقماش نريها بنات الجيران عبر السطوح . وتكون أمي في أشد حالاتها تجليا ، تجهز البخور وماء الورد للغد.. والبيت يلمع كما شارعنا الضيق الذي يكنسه الشباب أقصد الصبية ، يلبس إخوتي الثياب البيض الناصعة ،أمي كل شيء فيها يصبح ناصعا وخاصة روحها التي تشف فأكاد أراها في عينيها . يمضي العيد وتبقى لنا ولأمنا رائحة الحناء ولونها.
كبرتُ وصغر جسم أمي ومرض ،أحسها تذوب بين يدي ،كل يوم يقرب فراقها ، ويزيد لهفتي لجمع ما تبعثر منها لأخبئه لأيام جافة تبعدها فلا أصل لها،عندما نكون وحيدتين أقبل رأسها ويديها، أرسل أنفي لشمشمة طيات شعرها، ألملم البخور الممتزج برائحة الحناء من بين خصلاتها. أقرب خديّ لها فتقبلني . أهش القلق ما وسعتني حيلتي ، أبدأ الحكايا الجميلة ، حكايا تبعد الحزن عن صدر أمي وأبعده عن سريرها وعن الجسد المنهك في السرير الغريب بالأرض البعيدة، واللغة الغريبة . سور قصار من القرآن نرددها سويا مرتلة، ثم أمد بساطاً آخر لذكريات وأغان وأشعار الهزاني، أو أغني لها من سامريات اللعبون، تنهال حكايات طفولتي، وكرهي للمدرسة ، وخبزها الطازج وكيف كدت من جشع أدخل في التنور،الزبدة المدهونة على وجه الخبزة الصغيرة وذرات السكر البسيطة وكوب الحليب ورائحة الزنجبيل.. أيام المطر وحكايات دقاته على الجدار، ومن تلك الأصوات كنت أصنع محاورات بيني والجدار والمطر فارتعبت جدتي من هذه البنت المسكونة، عندما تتجمع الأمطار في ساحة الحي كنت أسابق الصبية سباحة وخوضاً، وتبدأ قصص السعال، وأيام شرب (الحلتيت). وياويلتي من الحلتيت كم كان مقرفاً رائحة وشكلاً وطعماً، لكنه علاج ناجع لسعالي الليلي. حكاية الملح بالماء الذي كانت أمي تضعه في عيني عقاباً، تمطر عين أمي من ضحك على حكاياتنا القديمة، الشاب الذي طاردني فملأني الرعب وعدت سريعاً لحضنها، هشته ككلب أجرب، وضعت عباءتها لتشكوه لأمه.. لم يعد يرى بالحي أبداً، ولكنه عاد في نهاية سنتي الثانوية ليخطبني وقد قلد الهبز وجعل من شعره شمسية سوداء، نهرته أنا هذه المرة، كم أضحكتنا تلك القصة. قصة جارتنا أم محمد، والقليب المشترك مع جيراننا الأخر بيت أبي أحمد، وحكايات أواخر الليل وبدايات الفجر وما يحدث من جر الرشاء من فتحة لأخرى ..وصوت العراك بين زوجتي أبي أحمد، كل واحدة تدعي حبه لها أكثر ، وهو ينتقل من غرفة لأخرى . وكل واحدة تظن أنه يهرب من الأخرى لها.
في ساعات رضا أمي عندما أنجح ، تعطيني الكليجا، وتبرني بقليل من الفلوس لأشتري المثلجات، وتدعني أركض بالحي لأخبر كل الناس أنني نجحت .. ولكنها سرعان ما تعود وتحجمني فالبنت ك(الخميرة لا تترك فتفور )، و تفور تعني أنها تتضاعف وتتنتشر ، لذا يعاد عجنها من جديد لتبقى كما هي تعود لحجمها الصغير. تماماً كما يكبح جماح الفتاة.
ضحكة أمي تهبني فرصة لأمرغ وجهي بشيلتها، وأعيد خزن رائحتها التي أميزها بين آلاف الروائح، ومازلت بعد سنين الفراق أحسها قريبة كأن لم يمض زمن ولا مرت سنوات وأعوام.
في حديث أمي يمتزج الزمان والمكان ، تعجن وتخلق حديثاً جديداً، كما تعجن الخبز وتضع خميرتها الخاصة وسرها الخاص ونكهتها المميزة ، لخميرة أمي رائحة تفوح بالخبز لمسافات بعيدة، هي مزيج من عجينة معتقة ، وشيء من اللبن القديم الحامض . تذر مرة الحبة السوداء ومرة قليلاً من الدارسين، وأحياناً قليلاً من اليانسون .. فتعطي النكهة التي تريدها. وتتهافت أيادينا الصغيرة عليها، أحياناً تجمع بقايا الجبن مع قليل من البقدونس وتضيفها للعجينة ، وأحياناً تعجن التمر ومن ثم تذر على وجه الخبز السمسم. بعد مضي العمر تمر علي لحظات أتمنى أن أفتح مخبزاً وأسميه باسم أمي . أولّد من أفكارها أفكاراً. ولكني أحجم فلا خبز في العالم يوازي نكهة ذاك الخبز، ما بين خبز أمي ودمعها ينعجن الزمن بي.
ويهطل دمعي ، هذا الدمع يعيدني لدمع أمي، وجرحي أعادني لكلمات أمي، كم مرة قالت لي أمي، قبلها قالت جدتي: البنت تنتخي بعبد أهلها ). الله ياأمي لو تدرين كم قضيت عمري وأنا أوشي بالحب والخير دروب صغير أهلي قبل الكبير. أمسك أيامي شموعاً لتضيء طريقهم، وأفتخر وأنا أرى تلك الشموع وهي تذوب وهم يكبرون ويبنون ويعمرون، الله ياأمي لم يبق لي مكان في أمكنتهم التي يملؤها الضيوف الملمعون من كل مكان وبكل لسان.ولا مكان على تلك السفر الممتدة. تغير الزمان ياأمي وتغير الناس من حولي . وبقيت أشم عطرك ياأمي. دمعي اليوم وكل يوم يؤلمني ، ولكني اليوم أحس أنفاسك قريبة جداً تقولين (مهلاً وصبراً. الظفر لا يخرج من اللحم يا منتهى..).
هل فعلاً ياأمي لا يخرج الظفر من اللحم وأنا انتهى كل شيء بي لقد سميتني (منتهى )، فالبنات كثرن وكنتُ رابعتهن، فقلت لينتهن بـ(منتهى )، فكنتُ شجرة المنتهى. التي تتساقط أوراقها ودموع الناس معها... يا أمي.
يا أمي دمعك عاد ليكون دمعي ..وجسدك الصغير المسجى في المكان الغريب على السرير البارد في البلد البارد يعاودني كل يوم ، ويملؤني بخورك الذي استبدلته لك بدهن العود ، حيث ممنوع اشتعال النار، وإن تحايلت صرخ جهازهم .. أبقى جنبك أجمع ما أمكنني من عباراتك ، أحاول أن أشرب عطرك أجمعه من هواء الغرفة ، وأودعه صدري لأيامي القادمة ..وأحكيك وتحكيني وأحاكي نبرتك ولمعة عينك وكفاحك مع الخبيث الذي يخنق أنفاسك وتخنقني العبرات بقربك ، الخبيث ياأمي خبيثان خبيث البشر وخبيث المرض.